فصل: المسألة الأولى: (في بيان أن كلام الآية جامع للترغيب والترهيب):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}
وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في بيان أن كلام الآية جامع للترغيب والترهيب]:

اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب، وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42] وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم، لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلهًا؟ بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال: الموجب بالذات إذا لم يكن عالمًا بالخيرات ولم يكن قادرًا على الإنفاع والإضرار، ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين، فأي فائدة في عبادته؟ فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول: إله العالم موجب بالذات.
أما إذا كان فاعلًا مختارًا وكان عالمًا بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة، وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة، وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة، فقوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} ترغيب عظيم للمطيعين، وترهيب عظيم للمذنبين، فكأنه تعالى قال: اجتهدوا في المستقبل، فإن لعملكم في الدنيا حكمًا وفي الآخرة حكمًا.
أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة.
فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده.

.المسألة الثانية: [دلالة الآية على مسائل أصولية]:

دلت الآية على مسائل أصولية:
الحكم الأول:
إنها تدل على كونه تعالى رائيًا للمرئيات، لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعداة إلى مفعولين هي العلم، كما تقول رأيت زيدًا فقيهًا، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار، وذلك يدل على كونه مبصرًا للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] يدل على كونه تعالى مبصرًا ورائيًا للأشياء، ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها هاهنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل.
الحكم الثاني:
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا: قد دللنا على أن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد، والقوانين اللغوية شاهدة بأن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار.
فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار.
ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهات والأنظار.
وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسكنات.
فوجب كونه تعالى رائيًا للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية لله تعالى، وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائيًا للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات، فلما قيل له: إن صح هذا الاستدلال، فيلزمك كونه تعالى رائيًا لأعمال القلوب، فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله: {وَرَسُولُهُ والمؤمنون} وهم إنما يرون أفعال الجوارح، فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه، وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك.
فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب، فدخول التخصيص في المعطوف، لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه، ويمكن الجواب عن أصل الاستدلال فيقال: رؤية الله تعالى حاصلة في الحال.
والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أمر غير حاصل في الحال، لأن السين تختص بالاستقبال.
فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال.
فقوله: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم.
ولمجيب أن يجيب عنه، بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار، وأنه غير جائز.

.المسألة الثالثة: [في أن عمل الإنسان لا يراه كل أحد]:

في قوله: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} سؤال: وهو أن عملهم لا يراه كل أحد، فما معنى هذا الكلام؟
والجواب: معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل.
قال عليه السلام: «لو أن رجلًا عمل عملًا في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنًا ما كان».
فإن قيل: فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين؟
قلنا: فيه وجهان:
الوجه الأول: أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك، فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية الله تعالى أولًا، ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين، فكأنه قيل: إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى، وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق، وهو الرسول والمؤمنون.
الوجه الثاني: في الجواب ما ذكره أبو مسلم: أن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة كما قال: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] الآية، والرسول شهيد الأمة، كما قال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41] فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية، فذكر الله أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد.
ثم قال تعالى: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الغيب ما يسرونه، والشهادة ما يظهرونه.
وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف، والشهادة الأعمال التي تظهر على جوارحهم، وأقول أيضًا مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات، وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول.
فوجب كون العلم بالغيب سابقًا على العلم بالشهادة، فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدمًا على الشهادة.
المسألة الثانية:
إن حملنا قوله تعالى: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} على الرؤية، فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} جاريًا مجرى التفسير لقوله: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} معناه: بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا، أو بإظهار أضدادها.
وقوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} معناه: ما ينظره في القيامة من حال الثواب والعقاب.
ثم قال: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها، لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف.
ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر، وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر.
وقال حكماء الإسلام، المراد من قوله تعالى: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} الإشارة إلى الثواب الروحاني، وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعًا من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه، فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملًا لتلك المشاق، عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها، وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة.
وأما قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة.
ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي، فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه، قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته، وهذا نوع من العذاب الروحاني، وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذرًا منه.
والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} يعني: ويراه رسوله ويراه المؤمنون.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن الناس قد أحسنوا القول كلهم؛ فمن وافق قوله فعله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يذبح نفسه.
{وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة}، يعني: يوم القيامة، {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا. اهـ.

.قال ابن عطية:

ومعنى {فسيرى الله} أي موجودًا معوضًا للجزاء عليه بخير أو شر، وأما الرسول والمؤمنون فرؤيتهم رؤية حقيقة لا تجوز، وقال ابن المبارك رؤية المؤمنين هي شهادتهم على المرء بعد موته وهي ثناؤهم عند الجنائز، وقال الحسن ما معناه: إنهم حذروا من فراسة المؤمن التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، وقوله تعالى: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} يريد البعث من القبور، و{الغيب والشهادة} معناه ما غاب وما شوهد، وهي حالتان تعم كل شيء، وقوله: {فينبئكم} عبارة عن حضور الأعمال وإظهارها للجزاء عليها وهذا وعيد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقُلِ اعملوا} خطاب للجميع.
{فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم.
وفي الخبر: «لو أن رجلًا عمل في صخرة لا باب لها ولا كُوّة لخرج عمله إلى الناس كائنًا ما كان». اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {وقل} أي قل يا محمد لهؤلاء التائبين {اعملوا} يعني لله بطاعته وأداء فرائضه {فسيرى الله عملكم} فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل فإن الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها {ورسوله والمؤمنون} يعني ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أعمالكم أيضًا.
أما رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطلاع الله إياه على أعمالكم.
وأما رؤية المؤمنين، فبما يقذف الله في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المذنبين {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} يعني: وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم {فينبئكم} أي فيخبركم {بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من خير أو شر فيجازيكم عن أعمالكم. اهـ.